“أحببت البحرين وناسها، وأردت أن أكتب كتاباً يعبّر عن مشاعري تجاه هذا البلد من دون المجازفة بمهنيتي”.
هل الحب يجازف بالمهنية؟ في تجربة فؤاد إسحاق الخوري، وجدت الحب سراً من أسرار نجاحه المهني، كعالم أنثربولوجيا وكأستاذ جامعي. يمكنني أن أدلل على ذلك بشاهدين من سيرته، الشاهد الأول يتعلق بتجربة عمله في البحرين، فبعد إنجازه كتابه “القبيلة والدولة” الذي صدرت طبعته الجديدة هذا الأسبوع عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، عرض عليه وزير العمل في السبعينيات أن يكون مستشاره، وكلف مستشاره البريطاني بيل بيري أن يغريه بالعرض وقال له “الوزير يودّ أن تصبح أحد مستشاريه ولهذا أعدّ لك ولعائلتك مسكنًا مجهّزاً بالأثاث”.
قرر الخوري رفض العرض. كان تبريره الذي كتبه في سيرته “كنت أحب عملي في الجامعة ولم أكن مستعدّاً أو راغباً في استبداله بوظيفة في المجال السياسي”. والأكيد أنه أدرك أن العرض يحمل سماً معسولاً، فالخليج بمشايخه القبلية لديه قدرة على تسميم ذمم المثقفين والعلماء وتحويلهم إلى أدوات مهجنة. كان الحب عاصماً له للحفاظ على مهنيته العلمية، حبه للعلم والكتابة في العلم كما تقول زوجته رانيا جلبوط: “إذا كان هناك شيء يحبه (فؤاد) فهو الكتابة”.
الشاهد الثاني، يتعلق بتجربة تدريسه في الجامعة الأميركية، فقد بدأ تجربة التدريس بمقاييس مهنية تتطلب تحضير كمية من الأوراق وكتابة مجموعة كبيرة من المعلومات والملحوظات، أدرك مبكراً إنها مقاييس فاشلة، وعليه أن يتخلى عن كل ذلك وينصت إلى ذاته وقلبه ومزاجه، عرف أنه من أجل أن يحصل على اهتمام الطلاب… تعلّم أن يتحدث مع نفسه، بشكل يوحي أنه مأخوذ بأفكاره. وجد أن الأفكار التي كان يحبها ويشغف بها كان الطلاب يفهمونها ويتذكرونها، وبدلاً من مقاييس المهنية المجردة من الحب وجد أن مقياس نجاح محاضرة معينة هو مزاج الأستاذ بعد خروجه من الصف. عندما يخرج الأستاذ من الصف سعيداً، فهذا يعني أنه أدى عملاً جيّداً.
لقد أحب الخوري عمله في البحرين بشغف، واستغرق مساحة كبيرة من سيرته في كتابه “دعوة للضحك… عالم انثربولوجيا لبناني في العالم العربي”. لذلك أنجز مشروعاً مميزاً فكرياً (القبيلة والدولة بالبحرين… تطور نظام السلطة وممارستها) لم يتم تجاوزه حتى اليوم. لقد بلغ شغفه بالبحرين إلى حد أنه أهدى كتابه إلى دانة، لكن من هي دانة؟ لم نكن نعرفها إلا من خلال سيرته التي كتبها بعد صدور الكتاب بـ23 سنة.
دانة اسم مشهور عند الإناث في البحرين ويعني لؤلؤة بيضاء. هذه اللؤلؤة هي رمز شخصي لكل البحرينيين، أحبنا الخوري ووجد أفضل رمز لنا هو اللؤلؤة، لقد أهدانا بشكل رمزي لؤلؤة، ويبدو أننا بادلناه الحب دون أن ندري حين جعلنا من “اللؤلؤة” رمزاً لثورة 14 فبراير، واخترنا دوار اللؤلؤة مكاناً لانطلاقتها، وكأننا نقدم تطبيقاً لإشكالية كتابه المتعلقة بالسلطة والقبيلة والثورة. هكذا إذن أودع الخوري سره في “الدانة” وفي الحب تكمن الأسرار والإبداعات، وهكذا كان كتابه “لؤلؤة” في الدراسات الاجتماعية والإنسانية المتعلقة بالبحرين.
لقد أحب أن يكتب عن البحرين، وأحب فؤاده البحرين، وأحب كتابه عن البحرين، وهو يحدثنا بحماسة وشغف عن هواجسه وهو يترقب ردود فعلنا على كتابه، وكم فرح حين عرف بالجدل الذي أثاره وبالملاحقة التي بذلناها في تتبع منافذ بيع الكتاب في الكويت وبيروت ولندن، وحين عرف أن الكتاب منع تداول ترجمته في البحرين، رتّب لزيارة عبر الجامعة الأميركية، وراح يتصل بوزير شؤون الإعلام وشيوخ آل خليفه ولم يعطه أحد جواباً، سوى “فيه أشياء وأشياء”، ولم يجد لفصل سيرته التي تحدث فيها عن هذا الكتاب ومنعه غير عنوان “أسرار معلنة… للنقاش لا للنشر”.
في إعادة طبع هذا الكتاب من قبل مركز أوال للدراسات والتوثيق، شيء من الوفاء لسيرة هذا العالم الفذ وفيه شيء من التقدير لمتانة طرحه، وفيه تصديق على ما قاله المسؤولون الذين منعوا نشره في البحرين أن… “فيه أشياء وأشياء”.
ماذا قال المقيم السياسي لآل خليفة في 1923؟ د. علي الديري*
يعالج “الخوري” هذه الإشكالية “كيف أنّ القبيلة، على صِغَر مجتمعها، من الممكن أن تتصرّف كدولة بالمقابل، كيف أنّ الدولة من الممكن أن تتصرّف كقبيلة” هذا السؤال اختبره على قبيلة آل خليفة في البحرين، ووجد أن القبيلة تمكنت أن ترواغ حركات الإصلاح والتحول نحو نظام الدولة، وبقيت الدولة محكومة بأعراف قبيلة آل خليفة ومصالحها.
القبيلة شكل بسيط وقديم من أشكال التنظيم السياسي، والدولة تركيبة معقّدة معاصرة، كيف يمكن أن يتصرف هذا البسيط في نظام معقد؟ يعود بنا (فؤاد) إلى 1923 وهو العام المفصلي في تاريخ البحرين، العام الذي قررت فيها بريطانيا أن تتحول السلطة من الشكل البسيط (القبيلة) إلى الشكل المعقد (الدولة= البيروقراطية). فقامت بعزل عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم كرجل إقطاع قبلي لأكثر من خمسين عاما، ونصبّت مكانه ابنه (حمد بن عيسى آل خليفة). كانت الخطة أن تتحول البحرين من النظام البسيط (القبيلة: عيسى بن علي) إلى النظام المعقد (الدولة: حمد بن عيسى) لقد عُزل عيسى بن علي، لكن نظامه بقي حتى اليوم.
كيف كانت تركيبة القوى الاجتماعية في ذلك الوقت؟ كانت تركيبة معقدة، وقد درسها (الخوري) دراسة معمقة من حيث وضعها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والاعتقادي، ولعل أفضل طريقة لفهم هذه التركيبة، هو استعادة خطاب المستعمر البريطاني لحظة تنصيب النظام الجديد في مايو 1923.
تحتفظ لنا الوثائق البريطانية بخطاب التنصيب الذي قدمه المقدّم إس. جي. نوكس (S.G. KNOX)، المقيم السياسي في الخليج، في المجلس الذي عُقد في البحرين في تاريخ 26 أيار/ مايو 1923.
لقد خاطب ثلاث قوى رئيسية، الأولى آل خليفة “السادة المحترمون من آل خليفة، أخشى أنني كلّما نظرت إلى الماضي، ينبغي عليّ تحذيركم من أنّ تحمّلكم للمشاكل الحاصلة لا يعني أنه لكم الحقّ في العيش على حساب باقي الجماعات… يصعب إيجاد مواقع لكم جميًعا، بعددكم الكبير، في الإدارة؛ وأنا أخشى أنّ الكثيرين غير كفوئين لذلك بسبب إهمالهم لأنفسهم”.
والقوة الثانية القبائل السنية “أيّها السادة أتباع المذهب السُنيّ، وخصوصًا رجال قبيلة الدواسر: ينبغي عليكم أن تدركوا أنّنا نقصد ترسيخ حُكم هذه الجُزر تحت حكم أحد شيوخ آل خليفة … كثيرًا ما واجهتم مثل هذه التهديدات في الماضي عبر تهديدٍ مضاد بمغادرة هذه الجُزُر في مجموعات والذهاب إلى ابن سعود أو غيره…. ولا منفعة لنا من أصحاب الأملاك الغائبين أو الأشخاص ذوي الولاءات المزدوجة. … ولا يمكن القبول بدولة داخل الدولة”.
والقوى الثالثة هم الشيعة “أيّها السادة أتباع المذهب الشيعي، وخصوصًا السكّان الأصليين في هذه الجُزر:
اعترفنا بوجود بعض الانتهاكات، وأعلنّا عن نيّتنا مكافحتها. ولكن أودّ تذكيركم بأنّ هذه الدولة سُنيّة، وتحيط بها مجتمعات سنيّة قويّة على هذا الساحل من الخليج، وهي تراقب إجراءاتنا باهتمامٍ كبير ومن دون أدنى شكّ. لا ينبغي عليكم توقّع المساواة الملزمة، ولا يمكن إلغاء الامتيازات السُنيّة دُفعة واحدة إذا لم نقل على الإطلاق”
في العام 1974، بدأ (الخوري) يدرس هذه القوى، وكيف مارست القبيلة سلطتها في إدارة هذه القوى، وجد أن إصلاحات 1923 بدلت التحالفات القبلية وأعطت الحكم وسائل جديدة للتدخل السياسي، فاستحدثت نظاماً هرمياً للسلطة، الأمر الذي عزّز، ولم يضعف، قوة العائلة الحاكمة ونفوذها. وساهم النفظ في تغيير الأسس التقليدية للإنتاج والعمل، فحول القواعد الاجتماعية للسلطة وخلق من ثَمّ صيغاً سياسية جديدة. وهكذا بدأت تظهر، في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، قوى اجتماعية وسياسية جديدة قوامها الموظفون والمثقفون والعمال، تتحدى وبطرق مختلفة، شرعية الحكم وسلطته.
لقد بدأ (الخوري) بحثه بعد استقلال البحرين بثلاث سنوات، وعايش أجواء برلمانها الأول ونقل لنا أجواء النخب الثقافية “شعر الكثير من اﻷشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بالبهجة إزاء تحقيق الاستقلال بيد أنّهم في الوقت نفسه كان ينتابهم قلق شديد من إدارة الدولة الجديدة الصغيرة”.
لقد تحقق الاستقلال بفضل النضال الوطني الذي قادته النخب الثقافية العابرة للطوائف والقبائل، لقد غادرت هذه النخب انتماءاتها التي خاطبها بها المقيم السياسي في 1923 لم يعودوا قبائل سنية وافدة وسكان أصليين شيعة، لقد صاغوا فضاء وطنيا مشتركاً وذهبوا فيه حتى تحقيق الاستقلال، وظلوا يحملون قلقاً وطنياً على إدارة الدولة، والسبب في ذلك هو أن آل خليفة وحدهم هم الذين لم يغادروا انتماءهم، بقوا قبيلة تريد الدولة كلها لها، لا ترغب أن تتحول عن قبليتها ولا ترغب أن يشاركها أحد في إدارة الدولة.
إذا ما أردنا أن نفهم ما جرى في 14 فبراير 2011، فعلينا أن نقرأ كتاب هذا (الخوري) فما زال كتابه راهناً وما زالت فرضيته تفسر حاضرنا، وما زالت القبيلة تحول دون فكرة الدول في البحرين وفي الخليج.
الكتاب : نصوص متوحشة.. التكفير من ارثذوكسية السلاجقة الى سلفية ابن تيمية
تأليف / علي أحمد الديري عرض / أزهر الموسوي
سيمضي وقت طويل حتى يدرك المسلمون “والمتضررون” العلاقة بين الجرائم المتوحشة التي ترتكبها المنظمات التكفيرية وعلى راسها داعش ومنظومات الافكار الفقهية والتاريخية الموروثة عن بعض الاسلاف. لكن المؤلف فالبحريني علي احمد الديري يتوغل سريعا في هذه الغابة الكثيفة من الاحداث والصور رابطا ربطا تعليليا وبلغة ادبية شفافة وجميلة بين وقائع الحاضر الصعب وجذورها في التاريخ العربي الاسلامي. في كتاب “نصوص متوحشة.. التكفير من ارثذوكسية السلاجقة الى سلفية ابن تيمية” الصادر عن مركز اوال للدراسات والتوثيق يفاجئ قراءة بنصوص متوحشة اخذت صفة العقيدة الدينية التي اوجبت كفر المخالفين خاصة بين القرنين الخامس والسابع الهجري في اغلب حواضر الاسلام الرئيسة وبالذات في العراق.
ركز الكاتب اكثر على شخصية خطيرة هي شخصية الامام الغزالي خاصة في كتابه “فضائح الباطنية” وكذلك على ابن تومرت الذي عمل في ظل دولة الموحدين فقيها لها وعلى ابن تيمية في كتابه الشهير”العقيدة الواسطية”. صنف الامام ابو حامد الغزالي بحسب بحث الكاتب من لا ينتمي الى “اهل السنة الصحيحة” الى كافر او مرتد. فيقول الكاتب ان الغزالي كان يقصد بذلك الاسماعيليين والفاطميين في عهده الذين اتهمهم الاسلام السني المغالي بالتحالف مع الصليبيين فيما اخفى حسب راي المؤلف كل النقاط المضيئة في تاريخهم لانهم ليسو على مذهب الحاكم العباسي او السلاجقة الذين هم الحكام الفعليون. يركز الكاتب ايضا على المدارس النظامية التي اسسها الوزير نظام الملك 1067 م. وهي المدارس التي عممت منظومة الوعي التكفيري وكانت مهمتها حسب وصف الكاتب الترويج لـ”الارثذوكسية السنية” وذلك باستخدام نتاجات الباقلاني والجويني وبالذات الغزالي. يعتقد الكاتب ان التوحش يبدا من هنا وخاصة من نصوصهم التي خدمت السلطة فاستخدمتها جهازا ايديولوجيا وسياجا منيعا ” متوحشا ” ضد مخالفيه “حتى السلميين منهم”.
لقد تمت الاجراءات لضمان واستمرارية هذه المواقف لهؤلاء الثلاثة وتثبيتها بتقادم الزمن حتى اليوم باعتبارها شعيرة دينية عنوانها حسب راي المؤلف “اقتل ولك الجنة”. يسال الكاتب سؤالا ويجيب عنه وهو: لماذا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الان؟ ويجيب لان هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين والخلافة الاسلامية والمدارس الاسلامية والائمة الاسلاميين حيث يعتبرنا هذا الوحش اعداءه الذين يجب قتلهم وسبيهم وهو ينظر الى ممارساته هه كعبادة كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرة دينية. يتهم الكاتب المدارس والجامعات العربية والاسلامية “بعقد تحالف” مع ابن تيمية فصارت كتاباته وفتاواه “دستورا” يحكم وفقها ملوك السلطة وولاة الامر والوحوش القاتلة. ويضيف: لن تجدي معنا كل عمليات التجميل والترقيع ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من اساطين الاعلام واساطيره من تحسين صورة وجوهنا الكالحة فلابد من قتل وتفكيك ادواته الفتاكة.
يعتبر هذا الكتاب اضافة مهمة جدا للمكتبة العربية والثقافة العربية في هذا الزمن لعدة اسباب لعل اولها جراة الكاتب في تسميته الاشياء باسمائها الصريحة الواضحة من غير تزويق ولا شعور كاذب بـ”مشاعر الاخرين” فمشاعر هؤلاء تمت مراعاتها قرونا طويلة رغم انها مشاعر وحشية وفتاكة.
علي الديري، كاتب بحريني شاء أن يضع إصبعه على مكمن الجرح، فكان مصيره النفي والإبعاد عن وطنه الأمّ. سحبت السلطات البحرينية الجنسية من الكاتب والأكاديمي والصحافي بسبب تعبيره عن رأيه بشكل واضح وصريح بلا مواربة، حسب تعبيره.
صاحب كتاب “خارج الطائفة” طرح تساؤلات حول ثنائية الخارج والداخل، الوجود خارج الطائفة وداخل المدينة والدولة والوطن، مدافعاً عن علمانية الفكر. لكنّ إلى أيّ مدى نتمكّن النفاذ فعلياً من مجتمعات تدفعنا إلى مذاهبنا حتّى إن شئنا أن نترك معتقداتنا الدينية للممارسات الخاصة؟
تجربة الديري مؤلمة وموجعة من دون شك، ليس له فقط، بل لمن يشاركه همّ رفع الهوية الإنسانية أعلى من أيّ هوية أخرى. عاد مؤخّراً الديري بمؤلّف جديد «نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية» صادر عن (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش فيه الكاتب نصوصاً “متوحشة” من التراث الإسلامي ليحفر في التأريخ بحثاً عن أجوبة لمأساة الحاضر.
كانلموقع (إرفع صوتك) هذا اللقاء مع الكاتب علي الديري حول مؤلّفه الجديد وتجربته الشخصية وما يمكن القيام به لمواجهة “وحش التطرف” الذي يغزو منطقة الشرق الأوسط اليوم.
علي الديري: يجب على المثقف أن يكون خارج الطائفة
ثم سألناه: تعود في كتابك “نصوص متوحشة” إلى التأريخ والنصوص التي يستند عليها نهج التكفير. هل أزمتنا الحالية أزمة نص أو أزمة سلوك – أي لو لم يكن النص موجودًا كمسوّغ للتطرف، هل كان المتطرفون ليجدوا مسوّغاً آخر؟
الديري: نحن أساساً حضارة نص. حركتنا محكومة بمدونة من النصوص هي كتب الأحاديث. نحب بنص ونكره بنص ونتزوج بنص ونأكل ونشرب بنص ونحارب ونسالم بنص. حركات التطرف اليوم تجيد اللعب بالنصوص والنطق بها وإعادة الواقع وما يحدث فيه إلى هذه النصوص. تأمل في أفواه من يأمرون بالقتل ويرسلون مفخخاتهم إلى المختلفين معهم، ستجدها تنطق بنصوص التوحش، تقذفها وفق بوصلة التجاذبات السياسية. لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تنشئ خطاباً جديداً في المجتمع بدون نص يعطي لخطابها مشروعية. نحن أمة من النصوص المسيجة بالتقديس المحمي بالسياسة. الدليل هو النص وما يقتضيه، وتميل مجتمعاتنا حيث يميل طرف النص، ولا دليل خارج النص، والعقل في خدمة النص، والنص مقدم على العقل.
وسألناه: حين ندرك أنّ التطرّف أو التكفير متجذّر في مجتمعاتنا، يصبح بهذا أيضًا جزءا من تراثنا. هل تعتبر هذه النصوص تأريخا أو تراثا؟
الديري: دعنا نسأل هل صار ابن تيمية تأريخا أم ما زال موروثاً ناطقا بكل ما فيه في واقعنا. هذه النصوص ما زالت تراثاً، لم تتحول إلى تاريخ. نحن ورثة ماضٍ لا يمضي، يشبه نهراً يتدفق بالنصوص. تركتنا ثقيلة، وهناك صراع رمزي ومادي حول استملاك هذا التراث. منذ 14 قرناً لم يتوقف جيل من أمتنا عن توريث صراعاته وأنماط حياته. حين يتوقف ذلك ستكون هذه النصوص تأريخاً للتأمل والفهم. نصوص الغزالي في تكفير الباطنية والشيعة ومختلف الأقليات وتقتيلهم وسبي نسائهم مازالت تُوَرّث. ولولا هذا التوريث ما شاهدنا هؤلاء الأبناء يستخدمون هذه النصوص بحرفيتها.
سؤال: في ظلّ صعود التشدّد والنزعة للإقصاء، ما الثمن الذي دفعه علي الديري لتطرّقه إلى الموضوع؟
الديري: حالياً أنا من غير جنسية وخارج وطني، وكتابي ممنوع في بلدي البحرين، وأنا في إعلام بلادي خارج عن طاعة ولي الأمر، وخائن لوطني وغير مسموح لأي وسيلة إعلامية هناك أن تجري حواراً صحفيا معي حول كتابي. ولو كنت هناك، من المؤكد أني سأحاكم وأسجن بتهمة إهانة رموز إسلامية كشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيضاف لها قائمة تهم طويلة، لن يكون أقلها التعريض بأهل السنة والجماعة والسلف الصالح.
الديري: حين خرجت عن السلطة السياسية.. تمّ إسقاط الجنسية
سؤال: تتبعت تطوّر المفهوم التأريخي للتطرّف من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟
الديري: أنا لم أوسع دائرة نصوص التوحش. لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها الفترات التأريخية كلها. ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها. هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا.ً العلماء الكبار الذين عاشوا في بلاط سلطة السلاجقة هم من صاغوا هذه النصوص في سياق الحرب بين الخلافة العباسية الممسوكة بسلطة السلاجقة والخلافة الفاطمية.
سؤال: نسمع دائماً النداءات حول الإسلام الحقيقي وجوهره. ما هو الإسلام الحقيقي من وجهة نظرك، وهل من ضرورة لإعادة فتح باب الاجتهاد لتصويب المفاهيم الدينية؟
الديري: الإسلام الحقيقي يقدم نفسه في صيغة أرثوذكسية مفروضة من قبل سلطة سياسية، بدا في عصر السلاجقة هو إسلام الأشاعرة، أي الإسلام الذي يقدم الأحاديث والروايات ويرفض الفلسفة والتأويل العقلاني على طريقة المعتزلة. وهذا الإسلام تحول إلى سلطة سياسية تنطق باسمه، سلطة السلاجقة بالعراق وفارس وسلطة الزنكيين بالشام وسلطة الأيوبيين بمصر. والإسلام الحقيقي بدا في عصر المماليك هو إسلام السلفية على طريقة ابن تيمية وأحمد بن حنبل، ولم يجد هذا الإسلام سلطة سياسية تتبناه حتى ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملّة محمد عبدالوهاب ورجل الدولة محمد بن سعود، فصارت عقيدة ابن تيمية السلفية عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى. وهي تقدم نفسها اليوم باعتبارها تمثل الإسلام الحقيقي.
سؤال: كيف يمكن محاربة توحش النصوص؟
الديري: يمكن محاربة الوحش في هذه النصوص بتفكيك سياقه السياسي بالدرجة الأولى. نحتاج حركة نقدية تقرأ هذه النصوص قراءة تاريخية، تبين كيف وضعت السياسية هذه النصوص في خدمتها ضد خصومها السياسيين. وهذا ما فعلته في هذا الكتاب (نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) بتفكيك السلطة السلجوقية والزنكية والأيوبية والموحدية والمملوكية. وهذا ما تعلمته من المفكر محمد أركون الذي عمل منذ فترة مبكرة على نزع القداسة عن هذه النصوص وكشف تكوينها السياسي والتأريخي، وهو أول من استخدم مصطلح الأرثوذكسية لوصف السلفيات التي تقدم نفسها تمثل حقيقة الإسلام ضد خصومها.
مداخلة على هامش استضافة صالون عصمت الموسوي لكتاب نصوص متوحشة
هامش على كتاب التوحش: هل الوحش سني؟
علي أحمد الديري
لماذا عالجت في كتابك نصوصًا سنيّة؟ ولم تعالج نصوصًا شيعيّة؟
إنّه السّؤال الأكثر إلحاحًا عليّ من قبل القرّاء، منذ أعلنت عن صدور الكتاب، ويبدو أنّه مطروح عليّ أكثر مما هو مطروح على كتابي، وهو يحمل طابعًا شخصيًّا، أو هكذا أتلقاه، وبشكل أكثر وضوحًا، وجدت في السّؤال تهمة، وكأن من يطرح السؤال يتهمني بالطائفية في معالجة خطاب التكفير، هل تريد أن تقول: إن خطاب التكفير خطابًا سنيًّا، وأنّ الشيعة مبرؤون من ظاهرة التكفير؟
سأجيب على السّؤال في نقاط خمس:
النقطة الأولى:
انطلقت في معالجة نصوص التوحش من فرضية تقول: إنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا. لم أنطلق من فرضية أن نصوص التوحش هي نصوص سنية بالضرورة، أو هي نصوص عابرة للمذاهب على قدم المساواة، أو كما نقول اليوم الإرهاب لا دين له ولا مذهب له.
نحن نعرف أن السلطة السياسية العامة في الحضارة الإسلامية كانت سلطة بيد الخليفة الذي يمثل السنة ولا يمثل الشيعة، فظلّ الشيعة يمثلون المعارضة بالنسبة له. كيف واجه الخليفة معارضيه؟ الجواب هو: بإنتاج نصوص تكفرهم وتبيح قتلهم، وهذا الجواب صاغته السلطة السلجوقية صياغة منهجية محكمة عبر المدرسة النظامية وفقهائها، وقد وضع هذه السياسة الوزير (نظام الملك) واعتبر السلاجقة أنفسهم مدافعين عن السنة والإسلام وفق هذه السياسة. هذا هو المعطى التاريخي السياسي، ولا يمكن أن نقفز عليه.
النصوص بناء على الفرضية التي طرحتها تنتمي إلى هذا العالم، أي إلى العالم السني، فالسلاجقة حين جاءوا إلى بغداد استلموا الخلافة العباسية ومثلوها، واعتبروا أنفسهم مدافعين عن الإسلام الذي هو الإسلام السني، لأنه الإسلام العام الذي يمثل عموم الأمة، فالوضع التاريخي يفرض أن يكون النص المتوحش الذي كتب فقهيًّا في حضرة السياسة نصًّا ضد الخصم الذي لا ينتمي إلى هذا العالم السني أو الطائفة السنية، فالموضوع متعلق بمعطى سياسي، أي إنّه وضع سياسي تاريخي موجود وبالتالي عالجته من هذه الناحية.
الفرضية التي انطلقت منها في كتابي فرضية تذهب إلى أن النص المتوحش نص فقهي مُنْتَج سياسيًّا، والمعطى التاريخي الذي اختبرت فيه هذه الفرضية يتعلق بتجربة السلاجقة، لأنّهم قد مثلوا الخلافة العباسية السنية وما تولد عنها فيما بعد من الدولة الزنكية والدولة الأيوبية في مصر وفي القاهرة.
الخلافة أو الأمة التي تتحدث باسم المسلمين في ذلك الوقت، هي خلافة سنية يتحكم فيها السلاجقة الذين لم يكونوا يعرفون العربية ولا يجيدون غير مهارة القتال، مقابلها كان هناك الخلافة الفاطمية بالقاهرة واليمن والشام والقدس، لاتمثل هذه الخلافة عموم الأمة، وهذا ما جعل سياستهم في المواجهة تبتعد عن أدوات التكفير، ليس لديهم نصوص تكفر السني لسبب واقعي، فهم لا يمكنهم أن يكفروا عموم المسلمين، فتلك مسألة غير سياسية وغير عملية.
بحثت لدى فقيه الدولة الفاطمية وهو القاضي النعمان، في كتابه (دعائم الإسلام) وكتابه (أساس التأويل) فلم أجد نصوصًا فقهية تبيح قتل المسلمين المخالفين وذبحهم، وهذا ما وجدته لدى الغزالي وهو فقيه الدولة السلجوقية الذي كتب كتابه (فضائح الباطنية) وكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وفي هذين الكتابين نجد نصوصًا متوحشة مرعبة.
النقطة الثانية:
تتعلق بانطلاقي من مشكلة حديثة، مشكلة معاصرة، وحاولت أن أضع لها إشكالية لفهمها، ألا وهي داعش وأخواتها من التنظيمات والجماعات المتطرفة التي تكفر وتقتل، وهي ظاهرة معاصرة، ومشكلة تجسّد فعل تلك النّصوص.
هذه الجماعات لديها مسميات واضحة وخطاب إعلامي واضح، وخطاب ديني يستخدم نصوصًا تنتمي من الناحية العقائدية إلى المركز، خطابها يقول: إنها تمثل السنة، وإنها تدافع عن السنة، وتنطق باسم السنة، وإنها تريد استعادة الخلافة السنية. أنا أردت أن افهم هؤلاء الذين ينطقون باسم السنة -وإن كانوا لا يمثلون السنة -أردت أن أفهم سياق النصوص التي يمتحون منها ويتأسسون عليها، فذهبت إلى هذه النصوص وفضائها السياسي. كيف لي أن أذهب إلى نصوص شيعية وهم ينطقون باسم نصوص سنية؟! ذهبت إلى نصوص ابن تيمية لأنهم ينطقون باسم هذه النصوص، وذهبت إلى نصوص الغزالي وإن كانوا لا ينطقون باسم الغزالي بصورة مباشرة، لكن النصوص التي أنتجها وصارت ثقافة فقهية عامة، هم يوظفونها وينطقون باسمها ويؤسسون عليها، مثل نصوصه التي تعتبر أن الباطنية مرتدون كفرة يجب على الخليفة قتلهم، وسبي نسائهم، وأخذ أموالهم، وإبطال عقودهم.
المشكلة المعاصرة فرضت عليّ نصوصًا معينة، فهناك نص سياسي صُنّع في السياسة وفي الفقه التراثي، وهذا النص يُولِّد اليوم ظواهر حديثة متطرفة.
خلاصة الفكرة الثانية، أنني أنطلق من مشكلة معاصرة في صياغة إشكالية كتابي (نصوص متوحشة) هي داعش وأخواتها، والإشكالية أن داعش وأخواتها هي وليدة نصوص موجودة في التراث، هذه النصوص ليست من الدين بل متولّدة من السياسية.
النقطة الثالثة:
هي أنني لا يمكن أن أوسع دائرة البحث بحيث أعوم المشكلة المعاصرة التي أريد تفسيرها، بمعنى أنني لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها الفترات التاريخية كلها، ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها.
هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب الظاهرة، وهو يشبه أن تسأل اليوم رئيس حكومة لبنان: ما سبب مشكلة القمامة لديكم؟ لماذا هي مكدسة في الطرقات العامة؟ فيجيبك: القمامة مشكلة عالمية، وتجد هذه المشكلة في مصر والعراق والهند وو… أو يقول لك: البلاد تعاني من أزمة سياسية ونحن لسنا نعاني من القمامة الحقيقية فقط، فهناك مشكلة القمامة السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. إنها إجابات تصلح للتهرب من السؤال، وأنا لم أشأ أن أجيب في كتابي إجابة تهربية.
لابد من تحديد دائرة البحث كي لا يضيع، فأنا لدي مشكلة معاصرة أريد معرفة جذورها، فلا يجوز أن أعوم المشكلة ضمن مشكلة كبيرة جدا، فلا أجد جوابا لها.
النقطة الرابعة:
كما قلت، السؤال يتضمن في طياته -ولو ضمنيًّا-اتهامًا طائفيًّا، بل إنّ بعضهم قالها صراحة: في معالجتك لنصوص التوحش، كأنك تقول إن التوحش مرتبط بالسنة، وإنك بهذا الكتاب (نصوص التوحش) تعود إلى ما قبل (خارج الطائفة).
حين أستعرض اشتغالاتي المعرفية، أجد أنّني في رسالة الماجستير درست كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام)، وقدمته كأحد المسهمين في علم تحليل الخطاب، وحين فكرت في المادة المعرفية التي صاغها ابن حزم، لم أكن أفكر في موقفه من الشيعة، ولم أكن أنظر إليه بوصفه عالمًا سنيًّا، بقدر ما قرأته بصفته أحد علماء التراث، لم أشعر أنني بحاجة لعمل توازن طائفي، بحيث أقدم في رسالتي ابن حزم وإلى جانبه عالمًا آخر شيعيًّا، كي أحقق توازنا طائفيا، لم أفكر في هذا أبدًا، لأن الموضوع ليس محاصصة طائفية.
وفي أطروحة الدكتوراه، حين درست مجازات (ابن عربي) بوصفه عالمًا صوفيًّا فريدًا، وفيلسوفًا صاحب تجربة روحية، لم أفكر أن آتي بمتصوف شيعي آخر، لأحقق توازنًا طائفيا، أو أبعد عن نفسي تهمة الانتقاء الطائفي.
حين أختار موضوعي أو بحثي، أحدد مجال الموضوع ونصوصه دون الاستناد إلى قاعدة المحاصصات الطائفية، ما يحدد نصوص الموضوع هي المعرفة، ففي بحثي عن نصوص التوحش حدد موضوعي أبعاد معرفية شرحتها في النقاط السابقة.
النقطة الخامسة:
هناك نوعان من التكفير كما يقول ابن تيمية، التكفير المطلق والتكفير المعين، الأول تكون فيه فكرتك أو اعتقادك كافرًا، لكنك لست بكافر لأنك لا تقصد أن تقع في الكفر. وفي التكفير المعين، يحكم عليك شخصيا بالكفر، يثبت عليك الكفر وتطبق عليك أحكامه، كما حدث مثلاً مع المفكر (نصر حامد أبو زيد) ومن قبله مع المتصوف (الحلاج) ومع الفيلسوف (السهرودي).
درست في كتابي التكفير المعين، أي التكفير الذي يقود إلى اعتبار الجماعة مرتدين ويجب قتلهم، كما هو الأمر مع الغزالي الذي قال بردّة الفاطميين، وإنّ على الخليفة قتلهم وقتل نسائهم، وكما هو الأمر مع ابن تيمية الذي قال شيعة (كسروان) مرتدون وكتب فيهم رسالة فقهية قادت إلى تشريع ذبحهم وتهجيرهم.
هناك نصوص تكفيرية عند الشيعة، بمعنى التكفير المطلق، مثلا قولهم: من لا يؤمن بكذا فهو كافر، ولكن هذا التكفير لا يترتب عليه تقتيل، أي لا يوجب تقتيلا. التكفير عند الشيعة مجرد تكفير عقائدي، متعلق بالمماحكات العقائدية، وبالحقيقة حاولت أن أبحث عن نصوص تكفيرية تقتيلية في المذهب الشيعي، فلم أجد، لكنّني لا أنفي ذلك بالمطلق، وإذا كان هناك باحث يستطيع أن يجد ذلك فليقم بهذه المهمة، وسيكون قد سدّ نقصًا في بحثي.
قدم الباحث وسام السبع قراءة لكتاب (نصوص متوحشة) للناقد البحريني علي الديري معتبراً أن الكتاب يمثل سبراً تاريخياً عميقاً لجذور التطرف الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي منذ سقوط بغداد عام 2003. واعتبر السبع خلال محاضرة في صالون الإعلامية عصمت الموسوي أن الديري يعدّ مثقفاً صاحب مشروع فكري يتسم بالجرأة والمشاكسة، وهذا ما يظهر بشكل جلي في كتابيه الإشكاليين (خارج الطائفة) الذي حاول فيه أن يخرج من الطائفة لا عليها وينظر لها كموضوع يدرسه لا إطار يستند عليه وكتابه الحالي (نصوص متوحشة) فهو في كلا العملين يجترح نهجاً يتسم بالجرأة والإقدام في مقاربة المواضيع التي تستثير وعيه.
وأوضح السبع أن الديري حاول أن يقدم إجابات غير محابية لمشكلة التطرف الديني الذي يفتك بالمجتمعات التي تعيش حالة الانفلات والفوضى الأمنية في بؤر التوتر العربي، مؤكداً أن الإشكاليات العميقة في بنية الفكر العربي والإسلامي ترجع في جذورها إلى العامل السياسي.
وقد أعقب كلمة السبع جملة من المداخلات للحاضرين والحاضرات، ركزت في مجملها على عمق المأزق التي تعانيه الشعوب العربية والإسلامية والمخاطر الناجمة من تغوّل الظاهرة الدينية في المجتمعات بشكل مخيف.
الديري: لم أجد نفسي ملزماً بإحداث توازن طائفي وأنا أبحث في جذور التطرف.. وتعويم المشكلة تهرب من مواجهتها
وقد تخللت الأمسية مداخلة صوتية مسجلة من بيروت لمؤلف الكتاب علي الديري أكد فيها التزامه كمثقف بضوابط وشروط البحث العملي في كتاباته وقال في معرض اجابته عن سؤال بخصوص عدم معالجته في كتابه لنصوص شيعية واكتفاءه بنصوص سنية: “إنّه السّؤال الأكثر إلحاحًا عليّ من قبل القرّاء، منذ أعلنت عن صدور الكتاب، ويبدو أنّه مطروح عليّ أكثر مما هو مطروح على كتابي، وهو يحمل طابعًا شخصيًّا، أو هكذا أتلقاه، وبشكل أكثر وضوحًا، وجدت في السّؤال تهمة، وكأن من يطرح السؤال يتهمني بالطائفية في معالجة خطاب التكفير، هل تريد أن تقول: إن خطاب التكفير خطابًا سنيًّا، وأنّ الشيعة مبرؤون من ظاهرة التكفير؟
سأجيب على السّؤال في نقاط خمس:
النقطة الأولى: انطلقت في معالجة نصوص التوحش من فرضية تقول: إنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا. لم أنطلق من فرضية أن نصوص التوحش هي نصوص سنية بالضرورة، أو هي نصوص عابرة للمذاهب على قدم المساواة، أو كما نقول اليوم الإرهاب لا دين له ولا مذهب له.
نحن نعرف أن السلطة السياسية العامة في الحضارة الإسلامية كانت سلطة بيد الخليفة الذي يمثل السنة ولا يمثل الشيعة، فظلّ الشيعة يمثلون المعارضة بالنسبة له. كيف واجه الخليفة معارضيه؟ الجواب هو: بإنتاج نصوص تكفرهم وتبيح قتلهم، وهذا الجواب صاغته السلطة السلجوقية صياغة منهجية محكمة عبر المدرسة النظامية وفقهائها، وقد وضع هذه السياسة الوزير (نظام الملك) واعتبر السلاجقة أنفسهم مدافعين عن السنة والإسلام وفق هذه السياسة. هذا هو المعطى التاريخي السياسي، ولا يمكن أن نقفز عليه.
النصوص بناء على الفرضية التي طرحتها تنتمي إلى هذا العالم، أي إلى العالم السني، فالسلاجقة حين جاءوا إلى بغداد استلموا الخلافة العباسية ومثلوها، واعتبروا انفسهم مدافعين عن الإسلام الذي هو الإسلام السني، لأنه الإسلام العام الذي يمثل عموم الأمة، فالوضع التاريخي يفرض أن يكون النص المتوحش الذي كتب فقهيًّا في حضرة السياسة نصًّا ضد الخصم الذي لا ينتمي إلى هذا العالم السني أو الطائفة السنية، فالموضوع متعلق بمعطى سياسي، أي إنّه وضع سياسي تاريخي موجود وبالتالي عالجته من هذه الناحية.
الفرضية التي انطلقت منها في كتابي فرضية تذهب إلى أن النص المتوحش نص فقهي مُنْتَج سياسيًّا، والمعطى التاريخي الذي اختبرت فيه هذه الفرضية يتعلق بتجربة السلاجقة، لأنّهم قد مثلوا الخلافة العباسية السنية وما تولد عنها فيما بعد من الدولة الزنكية والدولة الأيوبية في مصر وفي القاهرة.
الخلافة أو الأمة التي تتحدث باسم المسلمين في ذلك الوقت، هي خلافة سنية يتحكم فيها السلاجقة الذين لم يكونوا يعرفون العربية ولا يجيدون غير مهارة القتال، مقابلها كان هناك الخلافة الفاطمية بالقاهرة واليمن والشام والقدس، لاتمثل هذه الخلافة عموم الأمة، وهذا ما جعل سياستهم في المواجهة تبتعد عن أدوات التكفير، ليس لديهم نصوص تكفر السني لسبب واقعي، فهم لا يمكنهم أن يكفروا عموم المسلمين، فتلك مسألة غير سياسية وغير عملية.
بحثت لدى فقيه الدولة الفاطمية وهو القاضي النعمان، في كتابه (دعائم الإسلام) وكتابه (أساس التأويل) فلم أجد نصوصًا فقهية تبيح قتل المسلمين المخالفين وذبحهم، وهذا ما وجدته لدى الغزالي وهو فقيه الدولة السلجوقية الذي كتب كتابه (فضائح الباطنية) وكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وفي هذين الكتابين نجد نصوصًا متوحشة مرعبة.
النقطة الثانية، يقول الديري، تتعلق بانطلاقي من مشكلة حديثة، مشكلة معاصرة، وحاولت أن أضع لها إشكالية لفهمها، ألا وهي داعش وأخواتها من التنظيمات والجماعات المتطرفة التي تكفر وتقتل، وهي ظاهرة معاصرة، ومشكلة تجسّد فعل تلك النّصوص.
هذه الجماعات لديها مسميات واضحة وخطاب إعلامي واضح، وخطاب ديني يستخدم نصوصًا تنتمي من الناحية العقائدية إلى المركز، خطابها يقول: إنها تمثل السنة، وإنها تدافع عن السنة، و تنطق باسم السنة، وإنها تريد استعادة الخلافة السنية. أنا أردت أن افهم هؤلاء الذين ينطقون باسم السنة – وإن كانوا لا يمثلون السنة – أردت أن أفهم سياق النصوص التي يمتحون منها ويتأسسون عليها، فذهبت إلى هذه النصوص وفضائها السياسي. كيف لي أن أذهب إلى نصوص شيعية وهم ينطقون باسم نصوص سنية؟! ذهبت إلى نصوص ابن تيمية لأنهم ينطقون باسم هذه النصوص، وذهبت إلى نصوص الغزالي وإن كانوا لا ينطقون باسم الغزالي بصورة مباشرة، لكن النصوص التي أنتجها وصارت ثقافة فقهية عامة، هم يوظفونها وينطقون باسمها ويؤسسون عليها، مثل نصوصه التي تعتبر أن الباطنية مرتدون كفرة يجب على الخليفة قتلهم، وسبي نسائهم، وأخذ أموالهم، وإبطال عقودهم.
المشكلة المعاصرة فرضت عليّ نصوصًا معينة، فهناك نص سياسي صُنّع في السياسة وفي الفقه التراثي، وهذا النص يُولِّد اليوم ظواهر حديثة متطرفة.
خلاصة الفكرة الثانية، أنني أنطلق من مشكلة معاصرة في صياغة إشكالية كتابي (نصوص متوحشة) هي داعش وأخواتها، والإشكالية أن داعش وأخواتها هي وليدة نصوص موجودة في التراث، هذه النصوص ليست من الدين بل متولّدة من السياسية.
النقطة الثالثة، يضيف الديري، هي أنني لا يمكن أن أوسع دائرة البحث بحيث أعوم المشكلة المعاصرة التي أريد تفسيرها، بمعنى أنني لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها الفترات التاريخية كلها، ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها.
هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب الظاهرة، وهو يشبه أن تسأل اليوم رئيس حكومة لبنان: ما سبب مشكلة القمامة لديكم؟ لماذا هي مكدسة في الطرقات العامة؟ فيجيبك: القمامة مشكلة عالمية، وتجد هذه المشكلة في مصر والعراق والهند وو… أو يقول لك: البلاد تعاني من أزمة سياسية ونحن لسنا نعاني من القمامة الحقيقية فقط، فهناك مشكلة القمامة السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. إنها إجابات تصلح للتهرب من السؤال، وأنا لم أشأ أن أجيب في كتابي إجابة تهربية.
لابد من تحديد دائرة البحث كي لا يضيع، فأنا لدي مشكلة معاصرة أريد معرفة جذورها، فلا يجوز أن أعوم المشكلة ضمن مشكلة كبيرة جدا، فلا أجد جوابا لها.
أما عن النقطة الرابعة فيقول: السؤال يتضمن في طياته – ولو ضمنيًّا- اتهامًا طائفيًّا، بل إنّ بعضهم قالها صراحة: في معالجتك لنصوص التوحش، كأنك تقول إن التوحش مرتبط بالسنة، وإنك بهذا الكتاب (نصوص التوحش) تعود إلى ما قبل (خارج الطائفة).
حين أستعرض اشتغالاتي المعرفية، أجد أنّني في رسالة الماجستير درست كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام)، وقدمته كأحد المسهمين في علم تحليل الخطاب، وحين فكرت في المادة المعرفية التي صاغها ابن حزم، لم أكن أفكر في موقفه من الشيعة، ولم أكن أنظر إليه بوصفه عالمًا سنيًّا، بقدر ما قرأته بصفته أحد علماء التراث، لم أشعر أنني بحاجة لعمل توازن طائفي، بحيث أقدم في رسالتي ابن حزم وإلى جانبه عالمًا آخر شيعيًّا، كي أحقق توازنا طائفيا، لم أفكر في هذا أبدًا، لأن الموضوع ليس محاصصة طائفية.
وفي أطروحة الدكتوراه، حين درست مجازات (ابن عربي) بوصفه عالمًا صوفيًّا فريدًا، وفيلسوفًا صاحب تجربة روحية، لم أفكر أن آتي بمتصوف شيعي آخر، لأحقق توازنًا طائفيا، أو أبعد عن نفسي تهمة الانتقاء الطائفي.
حين أختار موضوعي أو بحثي، أحدد مجال الموضوع ونصوصه دون الاستناد إلى قاعدة المحاصصات الطائفية، ما يحدد نصوص الموضوع هي المعرفة، ففي بحثي عن نصوص التوحش حدد موضوعي أبعاد معرفية شرحتها في النقاط السابقة.
وعن النقطة الخامسة يقول الديري: “هناك نوعان من التكفير كما يقول ابن تيمية، التكفير المطلق والتكفير المعين، الأول تكون فيه فكرتك أو اعتقادك كافرًا، لكنك لست بكافر لأنك لا تقصد أن تقع في الكفر. وفي التكفير المعين، يحكم عليك شخصيا بالكفر، يثبت عليك الكفر وتطبق عليك أحكامه، كما حدث مثلاً مع المفكر (نصر حامد أبو زيد) ومن قبله مع المتصوف (الحلاج) ومع الفيلسوف (السهرودي).
درست في كتابي التكفير المعين، أي التكفير الذي يقود إلى اعتبار الجماعة مرتدين ويجب قتلهم، كما هو الأمر مع الغزالي الذي قال بردّة الفاطميين، وإنّ على الخليفة قتلهم وقتل نسائهم، وكما هو الأمر مع ابن تيمية الذي قال شيعة (كسروان) مرتدون وكتب فيهم رسالة فقهية قادت إلى تشريع ذبحهم وتهجيرهم”.
ويضيف:”هناك نصوص تكفيرية عند الشيعة، بمعنى التكفير المطلق، مثلا قولهم: من لا يؤمن بكذا فهو كافر، ولكن هذا التكفير لا يترتب عليه تقتيل، أي لا يوجب تقتيلا. التكفير عند الشيعة مجرد تكفير عقائدي، متعلق بالمماحكات العقائدية، وبالحقيقة حاولت أن أبحث عن نصوص تكفيرية تقتيلية في المذهب الشيعي، فلم أجد، لكنّني لا أنفي ذلك بالمطلق، وإذا كان هناك باحث يستطيع أن يجد ذلك فليقم بهذه المهمة، وسيكون قد سدّ نقصًا في بحثي”.
كما لا توجد جريمة من غير مجرم ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية.
في هذا الكتاب أحاول قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية في ثلاث بيئات سياسية استخدمت التكفير ضد أعدائها، بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري) من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.
لماذا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن؟ لأن هناك «وحشًا» يسرق وجوهنا، باسم الدين والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية، والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادة كما سائر العبادات، من حيث كون التكفير شعيرة دينية.
لقد أجاب الفيلسوف المسلم (عبد النور بيدار) إجابة دقيقة عن هذا السؤال في خطابه الصادم الذي وجهه للعالم الإسلامي: “رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي”.
يقول في ختامها: «وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلًا مثل هذه الوحوش، فسأقول لك إنّ الأمر بسيط وصعب في الوقت نفسه. لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة.. هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش، … وحين انتهائك من هذه المهمّة الضخمة… فإنّه لا يمكن لأيّ وحش حقير أن يأتي لسرقة وجه”.
مع الأسف، حاضرنا ينتج مثل هذه الوحوش ومستقبلنا يعد بها، وماضينا ما زال هو نفسه حاضرنا ومستقبلنا، ما زال ابن تيمية يُدرّس نصوصه في أمكنة المعرفة (المدارس والجامعات) في عالمنا الإسلامي، وفي أمكنة السلطة يعقد ابن تيمية تحالفاته، حتى صارت كتب فتاويه دستورًا يحكم وفقها ملوك السلطة وولاة الأمر، والجماعات القاتلة.
وجوهنا مسروقة ومشوهة وقاسية وقبيحة بسبب هذا الوحش، لن تجدي معنا عمليات التجميل والترقيع، ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من أساطين الإعلام وأساطيره، من تحسين صورة وجوهنا الكالحة، لا بدّ من قتل الوحش وتفكيك أدواته الفتّاكة بنا.
ذهبت إلى نصوص التوحش لأفكك متفجرات هذا الوحش العابرة للزمان والمكان، في هذه الرحلة سمعت أصوات فتاويه في جبال كسروان (1303م)، كما سمعتها وهي تدوي في القديح (2015) في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، وسمعتها (2015) في مسجد العنود بالدمام، والبقية تنتظر.
علي الديري
بيروت، 31 مايو/ أيار 2015
التكفير بين رجل الدولة ورجل الملة
الفرضية التي ننطلق منها في هذه الدراسة، يمكن صياغتها في هذه الجملة المختصرة: الوحش يكمن في (أرثوذكسية السنة السلجوقية) هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا.
نحاول عبر هذه الفرضية تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكّن نصوص التوحش من أن يكون لها شرعيتها الدينية ومكنها من تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام، كيف صار التكفير موضوعًا سياسيًا، يشرعنه الفقهاء (رجل الملة) ضمن أجهزة الخلافة الإسلامية (رجل الدولة).
تربط هذه الفرضية نصوص التوحش بحركة السلاجقة ووصولهم إلى بغداد (447 هـ/ 1055م) وهذا الربط لا يعني أن التكفير موضوع استجد في القرن الخامس الهجري، فالأمر يعود إلى القرن الأول الهجري، لكن هذه الفترة المبكرة ليست ضمن نطاق اهتمام هذه الدراسة، من جانب ومن جانب آخر، نظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، وأعني بالسياسة الممنهجة هنا أنه صار جزءًا من سياسة الدولة واستراتيجيتها أو تدبيرها حسب تعبير (الماوردي) مؤلف الآداب السلطانية وسفير الخليفة العباسي للسلاجقة قُبيل دخولهم بغداد، وهذا ما أثبته منظر السياسة السلجوقية نظام الملك في كتابه (سياسة نامه) الذي اعتبر دستورًا للدولة السلجوقية.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، ففي سنة 408هـ /1017م يقول ابن الأثير: «استتاب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب». لقد أصدر الخليفة العباسي القادر ما عُرف بـ (الاعتقاد القادري) وهو مرسوم يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب اتجاه الله واتجاه الصحابة.
الدفاع عن السنة القادرية
وجد السلاجقة أن مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب. اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.
تمّ إسكات جميع الأصوات المختلفة خصوصًا أصوات المعتزلة والشيعة، والمدارس الّتي أُنْشِئت منذ العصر السلجوقي، وهي المدارس النظامية، والمدارس النورية في عهد نور الدين زنكي، ومدارس صلاح الدين الأيوبي، كلّ هذه المدارس تكاد لا تخرج على هذا المعتقد «الأرثوذكسي»، ولا مكان فيها للفلسفة وعلم الكلام أو لتدريس المذاهب المختلفة، لم يخرج عن ذلك غير مدارس قليلة مثل المدارس التي عرفتها مصر في العهد الفاطمي، قبل أن يأتي صلاح الدين ويغلقها.
لقد عملت الدولة الزنكية والدولة الأيوبية باعتبارهما امتدادات مباشرة للدولة السلجوقية، على نشر (أرثوذكسية السنة السلجوقية) على جغرافيا أوسع، امتدت إلى الشام ومصر.
خلف خارطة هذه المدارس والاتجاهات الكلامية والفقهية يكمن التاريخ السياسي، كما عبر عنه ياسين عبد الجواد «نجد التاريخ السياسي كامنًا خلف تاريخ العقيدة والفقه والأصول».
معنى الأرثوذكسية
يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من استخدم مصطلح تفكيك «الأرثوذكسية» في قراءته للتراث الإسلامي و«الأرثوذكسية» في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية. والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة، أي طريق النبي. في الحضارة الاسلامية اعتُبِر المذهب السنّي على الطريقة الأشعرية، ووفق المذاهب الفقهية الأربعة هو الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يخضع له الجميع، فتم فرضه عبر سلطة الخلافة الإسلامية.
دعا أركون إلى تفكيك هذه الأرثوذكسية، أي تفكيك النصوص الّتي تدّعي أنها وحدها تمثل الإسلام الصحيح. والمُراد من تفكيكها هو إعادة إنتاجها، بعد تفكيك السياقات السياسية والتاريخية الّتي تقوم عليها، وهذه الأرثوذكسية ليست سنية فقط، فهناك النسخة الشيعية أيضًا. لكن السنية هي التي حكمت العالم الإسلامي بمجمله لأنها كانت تمثل الخلافة المركزية وهي التي تحكمت وصاغت الحس الإسلامي بشكل عام.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهم وجدوا أن هذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
لقد وصل السلاجقة إلى قصر الخلافة في بغداد قبل بدء الحروب الصليبية (1098م) بأربعة عقود تقريبًا، فبعد القضاء على دولة البويهيين في العراق دخل طغرل بك السلجوقي بغداد في 25 رمضان 447 هـ/23 ديسمبر/كانون الأول 1055م.
وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهًا للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببًا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.
صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضورًا فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديولوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبيين والباطنية مهمة جهادية أولى، أعطت شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك لـ (السنة الصحيحة) مفهومًا قاطعًا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف، فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد.
هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.
لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معانٍ متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، شيعي، رافضي، يضمر الشر للإسلام، معادٍ للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.
مع السلاجقة بدأت حملة موسعة (دينية، سياسية، إعلامية) ضد الإسماعليين والفاطميين الخصوم السياسيين والعقائديين للخلافة العباسية، وجرى تثبيت مفهوم السنة كأحد أسلحة المواجهة. هكذا تم تحويل الفاطميين والإسماعيليين والشيعة والمعتزلة والجهمية كأعداء واعتبرت الجغرافيا التي يسكنون فيها دار كفر، لأنها خارجة عن ولاية الخليفة الشرعي العباسي الذي يمثل الإسلام الصحيح.
الكافر بالخليفة
التكفير مسألة سياسية بوجه ديني، ماذا يعني هذا؟ يعني أن التكفير صراع حول السلطة أو حول شرعيتها، والتكفير هو عقوبة سياسية للمعارضين للخليفة الذي يتمكن من فرض سيطرته (صاحب الشوكة)، وهذا يحيلنا إلى الاختلاف حول من هو خليفة المسلمين: من هو الخليفة صاحب الشرعية؟ وهو السؤال الأول الذي طرح منذ وفاة النبي (ص)، وهذا ما سجله لنا أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) «وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم (ص) اختلافهم في الإمامة» وقاد هذا السؤال إلى الاختلاف حول الخليفة الأول ومقتل الخليفة الثاني والثالث والرابع، ولاحقًا إلى دويلات متعددة وحروب كبرى داخلية في الحضارة الإسلامية. ويستمر طرح السؤال نفسه: من هو خليفة النبي محمد؟ هل هو الإمام علي أم إنه أبو بكر، هل هم الأنصار؟ هل هم الأمويون؟ هل هو شخص من خارج قريش؟ هل هو شخص من قريش؟ هل هم العباسيون؟ هل هم الفاطميون؟ هل هم الصفويون؟ هل هم العثمانيون؟ هل هو أبو بكر البغدادي؟
الخلاف على تحديد الخليفة، أوجد الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وقد دفع بهذه الفرق للاستناد إلى النصوص الدينية لتؤكد صوابية خياراتها ومواقفها: من هو الأحق في حكم المسلمين؟
التكفير عقوبة سياسية
النصوص المتوحشة أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما أن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضًا. على سبيل المثال، كتاب الغزالي (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) هو كتاب تكفيري وتقتيلي، كتبه ليقدم بيانًا تأصيليًا يجعل من الخليفة العباسي مكلفًا شرعًا بقتل الفاطميين الذين لم يكونوا يقرون بشرعية الخليفة العباسي المستظهر في بغداد، كتب الغزالي كتابه في بلاط الخليفة 488هـ، وكما يقول في مقدمته أريد أن «أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية … بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة» وليس هناك خدمة ممكن أن يقدمها عالم الدين للخليفة أكثر من تأليف كتاب يظهر فضائله ويكفر أعداءه ويشرح له وجوب قتلهم وقتل نسائهم وأطفالهم.
كل ذلك، كان يتم برسم خدمة الشريعة التي كانت برسم خدمة السياسة أو بدوافعها كما يقول الجابري “أزمة الثقافة العربية كانت -باستمرار-سياسية في دوافعها”
ثقافة التوحش
لقد صاغت أسماء كثيرة خطاب التكفير في ثقافتنا، منهم الغزالي في كتابه (فضائح الباطنية) و(الاقتصاد في الاعتقاد) وابن تومرت في كتابه (أعز ما يطلب) وابن تيمية في كتابه (العقيدة الواسطية) ولعل هذا الكتاب أهونها، فمجمل كتبه مبنية على خطاب التكفير. وهناك تلميذ ابن تيمية وهو ابن القيم الجوزية (ت 751هـ/1175م) وقصيدته (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) المشهورة بالقصيدة النونية، مكونة من (5769 بيتًا) ينتصر فيها -كما يقول محققها- لعقيدة السلف الصالح، ويرد فيها على مخالفيهم، وينقض حججهم ويكشف شبهاتهم وتمويهاتهم “لم يدع الناظم – رحمه الله – أصلًا من أصول عقيدة السلف إلا بينه، وأفاض في ذكره، ولم يترك بدعة كبرى أو مبتدعًا خطيرًا إلا تناوله ورد عليه؛ فغدا هذا الكتاب – النظم – أشبه ما يكون بالموسوعة الجامعة لعيون عقائد أهل السنة، والرد على أعدائها من جهال وضلال وأهل أهواء”
تتوافر القصيدة على الانترنت على شكل ملفات صوتية متعددة الألحان، وهي بمثابة النشيد الحربي ضد الفرق والطوائف والمذاهب. ولعل الحاجة لها اليوم أشد من الأمس، في نظر المحاربين العقائديين.
يقول ابن القيم في قصيدته:
وكذا ابن سينا والنصير نصير أهـ
ـل الشرك والتكذيب والكفران
وكذاك أفراخ المجوس وشِبههم
والصابئين وكل ذي بهتان
إخوان إبليس اللعين وجنده
لا مرحبًا بعساكر الشيطان
هذه النماذج من المعتقدات هي نسخ مبيضة من مسودة الاعتقاد القادري، وما زالت المسودة تُبيض وتصقل وتزداد توحشًا، لتكون رأس حربة قاتلة في المعارك السياسية.
جريدة الجريدة:فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم «داعش» الإرهابي. «إنه رد على تحديات عصرنا». هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا لو أنها لم تكن كذلك، وكانت «داعش» على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي. إنها «النصوص المتوحشة» أو نصوص التوحش التي تستند إليها حركات التطرف كافة في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية». وحول ذلك يقول الديري: «ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية».
حاول الديري تتبع جذور «داعش» ليس من الآن؛ إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص «هي التي تغذي التكفير الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته»، موضحاً «بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين».
للمزيد حول ذلك التقينا الناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد.
نصوص متوحشة”.. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟”
في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأميركية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطاً بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): (عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول).
هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسة الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.
إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي يمارسه (داعش) اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة.
ومن هنا اتخذ كتابك الجديد «نصوص متوحشة» عنواناً، ماذا عن تصدر شعار حركة «داعش» مموهاً، لم اخترت هذا التشكيل عنوانا لكتابك الجديد؟
اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم (داعش) ودخوله الموصل، وجدتها تعبر عن مفهوم (نصوص التوحش) تعبيراً فنياً رائعاً، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوباً، يفهمون الرحمة توحشاً والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة ثمة علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته.
في مقابل هذا الفهم الساذج المتوحش لـ (لا إله إلا الله)، ثمة الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلاً وهو يقول “من ذا الذي نجا من (لا) – قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء). يقيم الرومي جدلاً روحياً بين (لا)، و(إلا) في (لا إله إلا الله) لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.
قبال تجربة العشق، ثمة تجربة التوحش التي جعلت لشعار (لا إله إلا الله) معنى وحيداً هو (جئناكم بالذبح). وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.
تطرف الإسلام السياسي
ركزت على حركة “داعش”، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفاً أم تجدها مثالاً يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي، أياً كان مذهبه؟
ينطلق كتابي (نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لافقهية.
حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري}، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.
يتغذى التكفير، الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته، من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي تركي البنعلي، وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب على دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه ما زالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير يوم الجمعة المقبل.
بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟
الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.
ما زلنا نصارع لأجل بلورة الوطن واقعاً حقيقياً نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر(داعش) في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.
وكما دفع روسو وفولتير وغيرهما حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا نحن كمثقفين، وكمثقفين خليجيين خصوصاً، أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.
أرثوذكسية السلاجقة
ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟
أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان ثمة المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة. وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثَّل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.
ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟
يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم مصطلح تفكيك (الأرثوذكسية) في قراءته التراث الإسلامي و(الأرثوذكسية) في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من السلطة السياسية.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوماً أحادياً وقطيعاً لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة.
“لا تتسرعوا في ابداء الحكم، ففي ذلك مقتل”
راينر ماريا ريلكه (شاعر ألماني)
منذ البداية أحسست بأنني مشدود لقراءة كتاب “نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه” لكاتبه البحراني د. علي الديري، قبل أي شيء، فتمهيد الكتاب –والذي أنصح الجميع بقراءته- هو “عين” الدكتور علي وروحه التي تبدو معلقة بين الكلمات. إنه يريد منا جميعاً أن نفهم ما هو هدفه الخاص من جراء هكذا “دراسة” . تبدو الأسباب الشخصية بائنةً للعيان. قد يرى البعض هذا مشكلةً في النص، بل قد يراها بعض آخر أنها “تضعفه” ولكن المدرسة الحديثة في “الأبحاث” ترى أن “رغبة” الشخص “الخاصة” في “كشف” الحقيقة و”إيضاحها” للناس تجعله باحثاً “شرساً” ومغامراً عنيداً في سبيل المعرفة، لا بل إن بعض الجامعات يحض عليها، وتعطي الأفضلية للباحثين المرتبطين بقضايا شخصية مع المادة “المبحوث” فيها وعنها.
هذا كله، لم يمنع حس الناقد بداخلي من التحرك، كنت أريد أجوبة عن أربعة أسئلة يعتبرها الناقد سلاحه الأبرز: ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ أين؟. كنت أريد أن أسأل ماذا يكتنز هذا الكتاب؟ خصوصاً لعلمي أن الدكتور علي يمتلك خلفيةً مرتبطة بتحليل الخطاب، وكذلك كيفية استعمال “المجاز” فضلاً عن إدراكه كيفية استعمال “الفلاسفة” لمنطقهم التفكيري. لكن هذه المرة هو يتحدث عن “التكفير”، لربما لما للمعنى/الفكرة من أهمية في عصرنا الحالي أو كما كتبه هو على غلاف الكتاب: إننا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن لأن هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين، والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادةٍ كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرةً دينية. ولا ريب أن هكذا كلمات هي الإجابة الرئيسية عن “ماذا” و”لماذا” هذا الكتاب.
ماذا عن “كيف” إذاً؟ يتناول د. علي القضية الشائكة بين أيدينا بهدأةٍ شديدة، وإن “بشراسة” المحقق، فهو يبدأ بتعرية الموضوع الماثل أمامنا تاريخياً متناولاً إياه “كموضوع سياسي” بحت، يعيده إلى مراحله الأولى من خلال ثلاثة فصولٍ يتناول فيها أبرز مراحل القضية المطروحة:
بيئة السلاجقة (في القرن الخامس الهجري) مع قراءة لنصوص الغزالي الخاصة بهذا النوع من الفكر، بيئة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وأخيراً بيئة القرن الثامن الهجري مع سلطة المماليك ونصوص ابن تيمية). يبدأ البحث من خلال “نقاشٍ تمهيدي” عن التكفير منقسماً بين “رجل الدولة ورجل الملة” وكيف أن كليهما ظهر بهذا الشكل الواضح والمباشر عند قيام الدولة السلجوقية بتطبيق “السلطة الدينية التكفيرية” كنظام حكم (وليس قبلها كما يدعي البعض، ففي السابق كان الأمر مجرد سلوكٍ فردي”، ولكن هذا لا يعني البتة اختراع السلاجقة للتكفير).
يتناول في الفصل الأول المرحلة السلجوقية الأولى التي أدخلت المفهوم كتحرك سياسي “نظامي”، فيتحدث عن كتاب “سياست نامه” أو ما عرف بالعربية بكتاب “سير الملوك” للوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الطوسي، وزير ملكشاه ابن محمد؛ إنه كتابٌ يعين “الحاكم على أمته” ويدله على أيسر وأبسط السبل التي تجعله قادراً على “خنق” معارضيه والإمساك بتلابيب الحكم حتى يشاء. أنشأ الوزير نظام الملك مدارس عرفت باسم المدارس النظامية، هذه المدارس التي من شأنها حماية الحكم السلجوقي ونشر “المذهب الشافعي” الذي كان نظام الملك “متعصباً شرساً” له، ولمعاداة الشيعة الإسماعيلية تحديداً (الذين كانوا يمتلكون قوة آنذاك).
لقد كانت هذه المدارس التي انتشرت بكثرة سبباً رئيسياً في تخليق “الأرثوذكسية” الدينية (وهو مصطلح استعمله محمد أركون بدايةً لتوصيف تأطير الدين بهذه الطريقة القاسية). وقد تأطر هذا النظام إلى الدرجة التي أصبح فيها ممثلاً للدولة السلجوقية بأكملها. طبعاً هذه كانت المرحلة الأولى من “التكفير” لتتبعها المرحلة الثانية مع أبي حامد الغزالي، ويستعير كتاباً للرجل وهو “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” وفيه يتعامل الغزالي مع الباطنيين بمنطق “التكفير” المطلق وبصفتهم خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة حكماً، فيما يظهر كتابه “فضائل المستظهرية” كتكريس لشرعية الخليفة العباسي المستظهر بالله (والذي كان في الـ 17 فقط من عمره آنذاك) كخليفة حق وولي أمر مفترض الطاعة. يظهر “التوحش” ههنا بشكلٍ واضح: إذ يكفي أن نعرف فقط أن أكل ذبائح “هؤلاء” هو “محرم” حتى نعرف عمّ تحدث الغزالي هنا، إن هؤلاء يصبحون حين تكفيرهم: خروجاً عن الإنسانية بشكلٍ كامل قاطع.
قراءة سياسية لفكرة التكفير
يأتي الفصل الثاني ليبتعد قليلاً عن مركزية الدولة المتمركزة في بغداد، ليقترب إلى المغرب العربي من خلال تجربة “دولة الموحدين” مع مفكرها ابن تومرت، الفقيه المغربي الشهير ورجل الدولة الأول هناك. وابن تومرت هذا لمن لا يعرفه، هو خريج من خريجي ذات المدرسة، أي النظامية، وقد التقى أثناء زيارته للمشرق والتي طالت سنين عدة (وقد أعطته هالةً مقدسة استخدمها في كل معاركه لاحقاً)، بالغزالي بحسب رواياتٍ كثيرة، وتأثر به كثيراً وقد أعجب الرجل بأسلوب أئمة الأشعرية واستحسن أسلوبهم في الدفاع عن العقائد السلفية، واستطاب رأيهم فيها. ربط ابن تومرت بين فكرتي التوحيد والتوحش معاً ودمجهما مع “لذة الجهاد”، وقد أدت “مواجهته” العنيفة مع “المرابطون” (الذين سيكون القاضي عليهم لاحقاً) وفقهائهم من المالكية إلى تخليق مذهبه الخاص وجماعته الخاصة التي دعت نفسها “الموحدون” في إيحاءٍ دقيق: نحن الوحيدون الذين نعتنق التوحيد الصحيح. ويستعير الدكتور علي كلماتٍ للذهبي في كتابه “العبر في خبر من غبر” حالة ابن تومرت: جره إقدامه وجرأته إلى حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور”. ويشير الكتاب إلى أنَّ “عقوبة الحرق” (والتي استخدمتها داعش لاحقاً بعدهم بسنين) تم استخدامها من قبل “الموحدين”.
أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فهو يتناول لربما أحد أشهر الأسماء في “عالم” التكفير اليوم والتوحش بلغته الحديثة، إنه ابن تيمية متمظهراً في دولة المماليك وإن بفشلٍ كبير مقارنةً مع من سبقوه (فهو لم يتمكن من أن يؤسس دولةً، بل سجن، وبقيت كتبه تنتظر مئات السنين حتى ظهور محمد بن عبد الوهاب وتمكنه من جعلها عقيدة الدولة السعودية الرسمية في العام 1745 م). سيشتهر الرجل بعد معركة “شقحب” الشهيرة بين المغول والمماليك، والتي كان فيها بطلاً ونازع فيها السلطان الناصر بن قلاوون الضجة والشهرة، يومها قال ابن تيمية كلمته الشهيرة: “انا رجل ملة لا رجل دولة”. وهي جملةٌ “كاذبة” للغاية من رجلٍ يبحث عن “السلطة قبل أي شيء”. عارض الشيخ كل شيء، وأحكمت فتاويه “السيف” في جميع “المخالفين” والأقليات التي عدّها كلها “كافرة” وتستحق “الموت”، ولكن أبرز من عاداهم وللمفارقة هم “الأشاعرة” بالذات.
حارب الرجل مذهب الأشاعرة لا لسبب إلا لأنهم ينافسونه على ملعبه وبين جمهوره، فهم يقولون “زوراً وبهتاناً” بحسب كلامه إنهم “مذهب الدولة” و”مذهب أهل السنة والجماعة”. وهذا أمرٌ لا يرتضيه أبداً. تظهر الخلافات ههنا بين المذهبين وبحدةٍ أيضاً: فابن تيمية يحاسب الأشعري على كتابه الأخير الذي كتبه أي “الإبانة” ويعتبره أنه “سلفي” كما يرغب، بينما يأتي الأشاعرة ميالين لقراءة كل تاريخه والتعامل على هذا الأساس مع ما يحدث.
يشرح الفصل صراعات ابن تيمية الكثيرة ضد أي شيء يخالفه، وكل شيءٍ “يمكن استخدامه” لتضعيف خصومه والقضاء عليهم. ويكفي أن نتحدث عن “توحش” ابن تيمية في الرسالة “الفتوى” التي أرسها إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون حيث يعطيه فيها “الشرعية الكاملة” لكل ما قام به من مذابح قتل خلالها “الشيعة” المعارضين له، معتبراً أنه في كل 100 عام يأتي مجددٌ للدين وهذا المجدد هو قلاوون، ويعتبر أنَّ ما فعله الناصر هو نفس ما فعله الخلفاء الراشدون في حروب الردة، قائلاً في فتواه: “يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة”.
في الختام؛ هو كتابٌ ذو جهدٍ كبير وحثيث في تناول “التوحش” من منابعه، وكيف أنّه يتعدى مرحلة الفكرة الدينية بكثير ليصلها بفكرة السياسة، وكيف أن هذه الدول استخدمت الدين/المذهب كوسيلةٍ للقضاء على أعدائها دون أي مسوغٍ منطقي سوى ألعاب حواة من قبل شخصياتٍ كانت تمتلك لساناً حذقاً، وعقلاً خلبياً يمكنهم من “قتل معارضيهم بكل طمأنينة بال، وهدوء سريرة”.
خارطة التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية
عرض / وسام السبع
– العنوان: نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية.
– المؤلف: د. علي أحمد الديري.
– الناشر: مركز أوال للدراسات والتوثيق.
– عدد الصفحات: 217.
– الطبعة: الأولى، 2015م.
يطرح الأكاديمي والناقد البحريني المغترب علي الديري في كتابه الجديد (نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية، 2015م) نقاشاً جدياً للنزعة التكفيرية التي هيمنت على خطاب المؤسسة الدينية، مستعيناً بدرس التاريخ وتقصي مراحله المفصلية الملتهبة والمثقلة بالصراعات العقائدية. جديدٌ في 217 صفحة من القطع المتوسطة يطل علينا من بيروت “دوحة الأزر وسط مستنقع الكفر” والذي أهدى عمله اليها وهي التي “لايمضي هواها” كما في نص إهداءه الشاعري.
في كل مرة يطل علينا الديري في عمل جديد يتحفنا بأطروحة جديدة يعالجها باقتدار وتمكن وصبر، والصبر في كتب من ذلك النوع الذي يكتبه الديري شرط يوازي الاتقان، وقيمة أي كتاب تكمن في قدرته على استعراض أطروحة رئيسية جديدة تتسم بالراهنية والعمق، وفي أسلوبه وكلماته في عرض أفكاره تاليًّا، وفي الحالين فان الديري أثبت غير مرة في أعمال فكرية سابقة (للديري ستة كتب سابقة منشورة بينها كتاب “خارج الطائفة” 2011م، وكيف يفكر الفلاسفة ؟ 2013م) قدرة استثنائية على خوض ملفات فكرية شائكة مستعيناً بذخيرة ثقافية واسعة واستعداد ذاتي عالي يخوله الدخول لمناطق بكر في ثقافتنا يتهيب وربما يعجز كثيرون عن ارتيادها ومقاربتها. الديري مثقف استثنائي جسور مسكون بالنقد والمسائلة وكتابه، على اختصاره، يعد واحداً من أجدّ وأكثر المداخلات الفكرية الجسورة عمقاً في سبر مجاهل التاريخ والاستعانه بشواهده في فهم وفضح ملابسات تشكل الحاضر المستقبل دليلاً على هذه الجسارة.
في مقاربته لنصوص التوحش يجتهد الديري في قراءة سرديات التكفير في سياقها السياسي، أي سياق اقترانه بالسلطة أوسياق سعية لامتلاك السلطة. يقول: “أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية اوعقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين”. (ص 18 – 19)
يستعيد الخطاب التكفيري مقولة محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ/ 1792م)، باعث سلفية ابن تيمية في القرون المتأخرة “إنما عُودينا لأجل التكفير والقتل” التكفير والقتال يحددان دائرة العداوة، وبهذا يصير التكفير حقلاً للتوحش، وممارسة التكفير تصبح “إدارة للتوحش” وهو عنوان أشهر كتاب في أدبيات التكفيريين الحديثة.
يتشكل الكتاب من تمهيد ومدخل وثلاث فصول خص في كل فصل دراسة معمقة لتراث واحد من رموز فقهاء التوحش ومنتجي سرديات التكفير، الأول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ / 1111م) في كتابه (فضائع الباطنية وفضائل المستظهرية) في المرحلة السلجوقية، والثاني محمد ابن تومرت (ت 524 هـ / 1130م) في المرحلة الموحدية، والثالث ابن تيمية (ت 728 هـ/ 1328م) في المرحلة المملوكية.
فكر الغزالي.. فضائح الباطنية ومنشور الدم
توقف الديري في الفصل الأول من كتابه عند عند فكر أبي حامد الغزالي، ودرس كتابه (فضائع الباطنية وفضائل المستظهرية)، وانطلق من هذا الكتاب في ايضاح المقصود من نصوص التوحش، لافتاً القاريء إلى الفصل الثامن من الكتاب والذي تناول فيه الغزالي قضية تكفير الباطنية التي يقصد بها الإسماعيليين على وجه الخصوص، وضمنا تدخل فيها باقي الفرق الشيعية، ووجوب سفك دمهم. وقد كتب الغزالي كتابه في نهاية القرن الخامس الهجري.
أراد الغزالي كما يقول فضح عقائد الباطنية ومتبنياتهم الفكرية، فكتب محذرًا الناس منهم، وكفّر فئة منهم وأجاز قتالهم، إنه ينفذ خطة نظام الملك الذي اعتبر الباطنية العدو الأول للدولة في كتابه (سفر نامة). والتفسير الذي يمكن سوقة هنا لاستهداف الغزالي للإسماعيليين هو بسبب الصراع السياسي الدائر بين الفاطميين (الإسماعيليين) مع الخلافة العباسية التي كانت تحت حكم السلاجقة، وكان الوجود الإسماعيلي المتعاظم يشكل تهديد جدّي حتى لقد وجدنا مستشرقاً قديراً كآدم ميتز (ت 1917م) الذي درس الحياة والمجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري يطلق عليه “القرن الشيعي” من هنا كانت الدعاية المضادة عنيفة جداً ضد الإسماعيلية.
ويستعير الديري، ما يطلق عليه فرهاد دفتري أبرز المؤرخين المتخصص في التاريخ الإسماعيلي في عالم اليوم، مصطلح (الخرافة السوداء) لوصف عمليات التشنيع التي مارسها الغزالي وغيره من علماء الخلافة العباسي ضد الاسماعليين كما أسهم الصليبيون الذين اشتبكوا مع الإسماعليين في صناعة هذه الخرافة.
يتوقف الكتاب أيضاً عند الجزء الثاني من عنوان الكتاب “فضائل المستظهرية” ليشير به إلى لقب الخليفة العباسي المستظهر بالله، فقد أراد الغزالي فيه تركيز شرعية الخليفة العباسي كخليفة حق، وولي أمر مفترض الطاعة، مقابل الباطنية كأهل باطن خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة مستنفراً جميع قدراته الأصولية والمنطقية بالقدر الذي يفوق ما بذله في فضح الباطنية وإثبات كفرهم.
هنا تعد معركة (شقحب) في 1303م حدث فاصل في التاريخ المملوكي، ففي هذه المعركة التي نشبت بين المماليك بقيادة السلطان الناصر بن قلاوون والمغول كان لابن تيمية دور محوري في تشجيع الناس والشد من عزيمة الحكام وجمع الأموال، كان أول الواصلين إلى دمشق يبشر الناس بنصر المسلمين، ولما احس بخوف السلطان من أن يستغل حب الناس له فيثور عليه قال:”أنا رجل ملة لارجل دولة”. سيمتد الدور الذي لعبه ابن تيمية مع رجل الدولة، إلى قتال الشيعة في جبال كسروان بلبنان باعتبارهم كفاراً مرتدين عن الإسلام، هكذا ستكون الفتوى دوماً في خدمة رجل الدولة للتخلص من أعدائه ومعارضيه (ص 23).
كارثية الاعتقاد القادري
لقد أصدر الخليفة العباسي القادر ما عرف بـ “الاعتقاد القادري” وهو مرسوم يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبته لله، ومفهوم الإيمان والكفر والاعتقاد الواجب اتجاه الله واتجاه الصحابة.
وقد وجد السلاجقة في هذه الاعتقاد تعبيراً عن ذودهم عن الإسلام والسنة، وكان هذا المعتقد يخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وجرى في إثر ذلك إخماد جميع الأصوات المختلفة لاسيما المعتزلة والشيعة والمدارس التي أُنشئت منذ العصر السلجوقي، وهي المدارس النورية في عهد نور الدين زنكي، ومدارس صلاح الدين الأيوبي، كل هذه المداس تكاد لاتخرج على هذا المعتقد “الأرثوذكسي” ولا مكان فيها للفلسفة وعلم الكلام أو لتدريس المذاهب المختلفة، لم يخرج عن ذلك غير مدارس قليلة مثل المدارس التي عرفتها مصر في العهد الفاطمي، قبل أن يأتي صلاح الدين ويغلقها. (ص 25). سرى ذلك على الدولتين الزنكية والأيوبية اللتين اعتمدتا ذات الأيدلوجية ولكن على نطاق جغرافي أوسع شمل بلاد مصر والشام.
احتاج السلاجة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهم وجدوا أن هذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء لخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
وقد وجد السلاجقة في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، لكنهم قبل ذلك وجدوها في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تم توسيع دائرة العدو فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشوييها للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسبباً في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس. (ص 28)
هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير.
ويبرز في هذا المعترك التخويني الموقف الذي أطلقه الحافظ محمد بن بن سهل الرملي الذي قال:” لو كان معي عشرة أسهم لرميتُ الروم بسهم ورميتُ المغاربة [الفاطميين] بتسعة” وقد عمل أميره حسان بن مفرج بهذه الفتوى فاستنجد بالروم ولكنه زاد على الفتوى بأن ألقى سهامه العشرة كلها على الفاطميين ولم يلق ولو بسهم واحد على الروم !
هكذا تم تحويل الفاطميين والإسماعيليين والشيعة والمعتزلة والجهمية كأعداء واعتبرت الجغرافيا التي يسكنون فيها دار كفر، لأنها خارجة عن ولاية الخليفة الشرعي العباسي الذي يمثل الإسلام الصحيح.
لا تستقر الأمور دائماً وفق ما تشتهي رغبة الفقيه التكفيري، فشيطان التكفير يرتد عليه في ما بعد، فعلى سبيل المثال، في دولة المرابطين، في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، ثاني الأمراء المرابطين، وصل الأمر إلى أنهم أحرقوا كتاب الإحياء للغزالي، واعتبروه “كتاب ضلال”، ذلك أن الغزالي نفسه فتح المجال أمام تكفير الآخرين بناءً على تأويلاته، ولم يكتف بمقياس من قال ” لا إله إلا الله محمد رسول الله” لإثبات إيمان أي شخص، وإغلاق باب الكفر بهذه الجملة. (ص 75). ويرصد المؤلف ما يسميه بتوحش أحكام التكفير حين يستعرض “أحكام من قضي بكفره”؛ فالغزالي يرى بأن الإمام مخير مع الكافر الأصلي في إطلاقه أو افتداءه بمال أو أسرى أواسترقاقه أوقتله، أما المرتد فالواجب قتلهم وتطهير وجه الارض منهم، هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية”. فالاطفال لايُقتلون مباشرة، فهناك تفصيل، النساء يقتلن مباشرة، ولايعرض عليهن الإسلام، الصبيان يعرض عليهم الإسلام، فان قبلوا والا قتلوا. هذا هو حكم الارواح محكومة بسفك الدم، نص في غاية التوحش، قتل للانسان وزوجته وابنته على معتقده وموقفه السياسي. (ص 80).
يتابع الديري مشروع الغزالي في كتاب آخر هو (الاقتصاد في الاعتقاد) الذي يفصل فيه مراتب المكفرين، ويوسّع مراتب الذين يكفرهم، وتضم هذه المراتب الباطنية وغير الباطنية، توسعٌ يُقدم لنا فكرة أشمل عن طبيعة الارثوذكسية/ النظامية/ السلجوقية/ السنية) في موقفها الفكري والعقائدي من المختلف معها وعن الفئات المستهدفة بالتكفير من قبلها.
وكتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) هو آخر إنتاج للغزالي قبل تخليه عن التدريس في المدارس النظامية ودخوله مرحلة العزلة الروحية. ومن المعروف أن المدارس الناظمية هي مدارس أنشئت في بغداد وفي نيسابور وقد أنشأها ألب ارسلان، مؤسس الدولة السلجوقية، وتولى زمامها الغزالي في نيسابور ثم في بغداد.
وينتهي الديري إلى أن الخطاب الذي بلوره الغزالي فتح أصلاً مؤسساً لفكرة التكفير، وهو خطير لانه مبني على قواعد شرعية وعقديّة وخطاب عالم قريب من السلطة، بل هو جزء منها ولهذه الجهة بالذات تمثل نصوص الغزالي أخطر من الخوارج الذين لم ينتجوا نصوصاً رغم غظم الدور الذي مارسوه في مراحل متقدمة من التاريخ وحياة المجتمع الإسلامي.
وقد دخل “النسب” القرشي في سياق الصراع السياسي المحتدم في القرن الرابع والخامس، فالنسب القرشي كان دائماً شرطاً من شروط تبوء منصب الخلافة، ولكن ماذا إذا كان العباسيين والفاطميين قرشيون ؟
أثار هذا الأمر حروب طاحنة بين الفريقين، وقد قاد هذا النزاع العباسيين شن حرب كبرى لتشويه نسب الفاطميين اشترك فيها الأعيان والنخبة العلمية التي وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع وضع تسوده الكراهية، واندلعت حروب التشكيك في نسبهم ووضع أنساب لهم تقربهم من اليهود أو تجعلهم ينتسبون إلى نسب وضيع مشكوك فيه. وفي العصر العباسي السابق، في العصر البويهي، أدت هذه المسألة إلى أن تكتب العرائض وطلب من العلويين – بإملاء سياسي – أن يوقّعوا عليها ويتبرؤوا من الفاطميين، ويعتبروا نسبهم غير علويّ.
وقد مثّل كتاب (سياست نامه) الذي وضعه الوزير السلجوقي المشهور نظام الملك الطوسي دستوراً للدولة السلجوقية، ويعني (سير الملوك) وقد وضعه الطوسي في الفترة التأسيسة لسلطة السلاجقة، وعندما وضع الكتاب أُعجب به ملكشاه وقال:”لقد اتخذت الكتاب إماماً لي، وعليه سأسير”. لقد كتب نظام الملك كتابه باللغة الفارسية لأن السلاجقة اتخذوا الفارسية لغة الدواووين والرسائل إلى جانب العربية.
لقد بلور نظام الملك أطروحة سياسية بالغة الدقة في كتابه الذي يعد واحداً من النصوص الدينية المتوحشة، وهي سياسة مثلت الخلافة العباسية التي كان يحكم السلاجقة باسمها. هذه النصوص بقيت ومازالت تعمل إلى اليوم، وسياسة نظام الملك هي التي أنتجت هذه النصوص التي أتت في فترة متأخرة عنها.
ابن تومرت والدولة الموحدية: من نصوص التصفية
وإلى المغرب العربي والأندلس حيث يدرس الفصل الثاني من الكتاب نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت (ت 524هـ/ 1130م) رجل دولة الموحدين الأول. والذي عاش في الفترة التي حكم فيها السلاجقة بغداد. وهو أحد خريجي المدارس النظامية، وقد التقى بالغزالي وتأثر به اثناء رحلته المشرقية في التحصيل ويصفه ابن خلدون :”وانطلق هذا الإمام راجعاً إلى المغرب بحراً متفجراً من العلم وشهاباً وارياً من الدين”.
عاش ابن تومرت في بيئة أضعفها التفكك وأنهكها التهديد الصليبي للوجود الإسلامي في الأندلس والمغرب. وقد جاء وهو يفكر في مشروع انقاذي يعطي للمسلمين بعضاً من هيبتهم المفقودة وعزهم المسلوب. وهنا انهمك في صياغة عقيدة متشددة فيما يخص التعالي الرباني والتوحيد الالهي، وسيبلور مفهوماً احتكارياً للتوحيد على جماعته (الموحدون)، باعتبارها الجماعة التي تعتنق التوحيد الصحيح، وستكون العقيدة (المرشدة) نشيد دولة الموحدين.
لقد تعلم صياغة العقيدة المرشدة الخاصة به من خلال المدارس النظامية التي كانت إحدى تجليات السعي السلجوقي للتمثيل السني في العالم الاسلامي في العراق فهناك لديهم نسختهم المنقحة من المعتقد القادري المبني على العقيدة الأشعرية التي أمست أيديولوجيا للدولة السلجوقية.
بلوّر ابن تومرت رؤيته عبر خطبه ورسائله ومناظراته التي ستجمع في ما بعد حين تتمكن دعوته من تكوين دولة، في كتاب أطلق عليه (أعز ما يطلب). الكتاب الذي تحول إلى دستور الدولة الموحدية، وذلك على يد أحد تلامذته وهو عبد المؤمن بن علي الكومي (ت 558هـ/ 1163م) الحاكم الأول لدولة الموحدين، وهو نفسه الذي سيجمع لاحقاً هذا الكتاب وسيعتبره دستور الدولة وعقيدتها وأيديولوجيتها.
ويذهب المؤلف في مناقشة تفاصيل الصراع الذي نشب بين فقهاء المالكية والموحدين، إذ اعتبروهم من الخوارج بسبب العنف الذي قاموا به وبسبب خطابهم التكفيري لأهل السنة. “وصحيح أن القوة السياسية التي أسسها ابن تومرت قد ابقت الأندلس قوية عند المسلمين ما يقارب قرناًونصف من الزمان، وقد عرف عصرهم ازدهاراً علمياً وثقافياً واشتهر فيه علماء وفلاسفة كابن الطفيل وابن رشد، ولكن علينا أن نراجع هذه الانتصارات الكبيرة اليوم لأننا نحصد مآسي كبيرة وسفكاً كبيراً للدماء”.
(ص 123). والمؤلف يستعرض نماذج من المذابح التي ارتكبها الموحدون في مراكش. وكانت من الادبيات الخالدة التي تركها ابن تومرت “وكان في وصيته إلى قوم اذا ظفروا بمرابطٍ أو أحدٍ من تلمسان أن يحرقوه” كما يذكر المؤرخ الذهبي في (تاريخ الإسلام). لكن غلواء التوحش خف مع استتباب الأمر للدولة الموحدية وجرى تحوير مدلول (التوحيد التومري) بحيث أضحى أكثر تسامحًا واتساعاً.
ومن المفارقات الغريبة، يسجل المؤلف، أن ابن تيمية وتلميذه الذهبي يتسنكران على ابن تومرت ودولته سفك دماء المسلمين، والحكمة بشرعنة هذا السفك، ويتناسيان انهما حين جاءا بعد وفاة ابن تومرت بأكثر من 130 عاماً، قد أنتجا نصوصاً اكثر توحشاً وتشدداً.
حصاد المرحلة المملوكية.. نصوص ابن تيمية
في الفصل الثالث من الكتاب والذي حمل عنوان “ابن تيمية والتكفير المملوكي” يستعرض فيه المؤلف نصوص ابن تيمية وأثرها في تأسيس بذور الخطاب التكفيري في التراث الإسلامي.
ولد ابن تيمية في سوريا بمنقطة ملتهبة تعيش توتراً بين التتار والمماليك والصليبيين، فيما العالم الإسلامي يعيش تشتتاً كبيراً على مستوى السلطة المركزية فالخلافة العباسية سقطت، والمغول يسيطرون على العراق وإيران ويهددون حدود الشام، الفاطميون سقطوا، الصليبيبون مازالوا موجودين.
لم يكن ابن تيمية موظفاً داخل بلاط السلطة، كما كان الغزالي موظفاً عند نظام الملك الذي ترأس مدرسته النظامية عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وهو ليس صاحب مشروع دولة وسلطة كما كان ابن تومرت حين انشأ الدولة الموحدية. مع ذلك، فان نص ابن تيمية يتقاطع مع نص السياسة والسلطة والقوة، وهذا التقاطع لعب دوراً كبيراً في صناعة نصوص توحش وواقع متوحش أيضاً ففتاويه لعبت دوراً كبيراً في إحداث مجازر دينية مستمرة حتى اليوم. (ص 132)
وقد سعى ابن تيمية لتكون عقيدة ابن حنبل العقيدة الرسمية لدولة المماليك، لم ينجح وكان مصيره السجن، وبقي هذا الحلم مؤجلاً إلى حين انبثاق ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملة محمد بن عبدالوهاب ورجل الدولة ابن سعود.
لمع اسم ابن تيمية عقب الانتصار الذي تحقق للمماليك على المغول المسلمين في حرب إسلامية – إسلامية في معركة “شقحب”، فقد وضع مشروعية لهذه الحرب وأنتج من خلالها نصوصاً تكفيرية متأثرة بهذا الجو، وقد أفتى لهم بالافطار في رمضان ليتمكنوا من تحسين أدائهم في المعركة. وقد خرج ابن تيمية من كل ذلك بنجومية كاسحة نافس بها السلطان المملوكي نفسه.
واجه المماليك عدو آخر هم الصليبيون وهزموهم في معارك كبرى في فلسطين ودمشق ولبنان، وبعد ذلك كان على ابن تيمية أن يواجه الأقليات المسلمة المصنفة بأنها ليست من أهل السنة والجماعة: العلويون، النصيريون، الروافض، الإسماعيليون، الإثني عشرية الموجودين في جبال لنبان وكسروان. بل إن ابن تيمية خاض معارك عقيدية متعددة الجبهات وكانت واحدة من معاركه الكبيرة مع الأشاعرة ممثلي أهل السنة والجماعة كما يشرح الكتاب بالتفصيل.
يجري خطاب التكفير عند ابن تيمية وفق محددات السياسة، بمعنى أن ما حددته السياسية أنه كفر فهو بالنسبة لابن تيمية كفر، وهذا ليس بمعنى الامتثال المباشر أو الخضوع إلى قرار سياسي، وليس بمعنى أنه لا يراعي الضوابط الشرعية، لكن باعتبار أن خطاب من يتحدث باسم أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يخرج على خطاب السياسة؛ ذلك أن إحدى مقتضيات الدين الأساسية عند أهل السنة والجماعة عدم جواز الخروج على الإمام أو الخليفة حتى لو كان فاسقاً أو مغتصباً للخلافة أو شارباً للخمر أو ظالماً أو مستولياً على السلطة بالقوة كما يوضح الكتاب. (ص 167) من هنا قد لايكون من المستغرب ذلك التطابق الذي نعثر عليه في خطاب ابن تيمية مع الغزالي في تكفير الإسماعيليين والروافض والفلاسفة وعموم الفرق الشيعية.
وضع ابن تيمية معياراً لتكفير الفرق هو أن يكون ظاهرة الفرقة وباطنها يدلان على الإسلام. فاذا كان في الباطن ما يدل لى مخالفة الإسلام فان هذه الفرقة كافرة، والباطن يعرف من خلال فحص طبيعة المعتقدات والمنشأ. مواصفات وجدها ابن تيمية متحققة في الشيعة على أكمل معنى على تفاصيل يشير لها الكتاب.
وقد كتب ابن تيمية مطلق القرن الرابع عشر الميلادي فتوى تاريخية شهيرة أرسلها ابن تيمية لسلطان الممالك الناصر بن قلاوون أعطى فيها المشروعية الدينية لتنفيذ مذبحة كسروان التي قام بها 50 ألف جندي من المماليك فيما عرف بـ (فتوح كسروان) وهي تسمية مشتقة من تهنئة الفتح التي وردت في نص الفتوى.
ويعتبر المؤلف أن فتوى ابن تيمية يمكن عدّها فصلاً ملحقاً بكتاب (فضائح الباطنية) للغزالي، فهو يستعمل – بعد 217 عاماً – تسميات الغزالي وتوصيفاته، ويتتطابق مع موقفه الشرعي والسياسي وعرضه لعقائد الإسماعيليين وكل ما هو مكون في الصورة الذهنية عن هؤلاء.
أصبحت نصوص التكفير والتوحش لوائح إتهام سياسي جاهزة للاستخدام والتوظيف ضد الخصوم السياسيين والعقائديين، والفرضية التي ينطلق منها الديري في درساته صاغها في هذه الجملة المختصرة: “الوحش يكمن في (أرثوذكسية السنة السلجوقية) هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا” فـ “نص التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصاً أخرى، ويجعل الاختلافات السياسية حالة عداء لاتنتهي، في حين أن الخلاف السياسي قد ينتهي”.
في الكتاب خوض شيق لمقولات فكرية حاولت أن تقرأ مسار العقل والتجربة العربية وهنا يشير الديري إلى محمد أركون بوصفه صاحب أولى المحاولات الفكرية التي قاربت مصطلح الأرثوذكسية الإسلامية التي تتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية، لكن الديري يبدي استغراباً من سلفية اللبناني رضوان السيد التي تعتبر ما يُكتب من نقد للتراث الإسلامي بحثا عن جذور الارهاب الحديث ما هو إلا استهداف للإسلام السني !!
يصل الديري في عمله الماثل إلى عتبة متقدمة في تحليل الخطاب الثقافي العربي الذي اشتغل على تفكيك مجازاته ورسائله المضمرة لما يزيد على العقدين، هنا ينهد إلى اقتراف شجاعة وعناد أكبر، فإذا كان هاجس الديري في ما سبق الاشتغال على مفاهيم التسامح والتعايش واحترام الآخر، والقفز على الهويات الفرعية وتجاوز الأسوار الطائفية إلى ما كان يراه بنعيم الدولة المدنية التي – وحدها – تكفل صياغة واقع اجتماعي يُصار فيه الجميع سواسية أمام سلطة القانون دونما إزعاج منشأه الحساسيات الدينية؛ فإن الديري الآن بات مقتنعاً بأن نصوص التوحش التي تشكل مرجعية شرعية لتنظيمات الإسلام الجهادي هي المسئولة عن حجم الدمار الذي يفتك بمجتمعات الشرق الأوسط الإسلامية اليوم.
من هنا حاول الديري الرجوع إلى المنابع المؤسسة لثقافة التوحش وإهدار الدم بدواعي الدين وربط سياق التشكل التاريخي لهذه المفاهيم بما يجري في عالم اليوم من مآسي مروعة باسم الدين بغية تعرية هذا التراث المرعب وإدانته وتجاوزه وتأسيس رؤية دينية أكثر تسامحاً وإنسانية تحترم إنسانية الإنسان وتصون حقوق البشر وتنصف محاسن الحياة بكل تجلياتها الإنسانية. كان المغربي محمد عابد الجابري يعتبر إن “أزمة الثقافة العربية كانت باستمرار سياسية في دوافعها”. وهذا ما يجتهد الكتاب في شرحه مفصلاً.